خطبة الجمعة الثانية : التَّفَكُّكُ الأُسَرِيُّ (مبادرة صحح مفاهيمك) ، للدكتور أحمد رمضان
خطبة الجمعة القادمة 19 ديسمبر 2025 بعنوان : التَّفَكُّكُ الأُسَرِيُّ (مبادرة صحح مفاهيمك) ، إعداد: رئيس التحرير الدكتور أحمد رمضان لـ صوت الدعاة ، بتاريخ 28 جمادي الثاني 1447هـ ، الموافق 19 ديسمبر 2025م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 19 ديسمبر 2025م بصيغة word بعنوان : التَّفَكُّكُ الأُسَرِيُّ (مبادرة صحح مفاهيمك)، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان لـ صوت الدعاة.
انفراد لتحميل خطبة الجمعة القادمة 19 ديسمبر 2025م بصيغة pdf بعنوان : التَّفَكُّكُ الأُسَرِيُّ (مبادرة صحح مفاهيمك) ، للدكتور أحمد رمضان.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 19 ديسمبر 2025م بعنوان : التَّفَكُّكُ الأُسَرِيُّ (مبادرة صحح مفاهيمك)، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان.
العنصرُ الأولُ: خطورةُ التفككِ الأسريِّ في ضوءِ القرآنِ والسنةِ
العُنْصُرُ الثَّانِي: أَسْبابُ التَّفَكُّكِ الأُسَرِيِّ وَمَظَاهِرُهُ فِي الوَاقِعِ المُعَاصِرِ
العنصرُ الثالثُ: علاجُ التفككِ الأسريِّ وطرقُ لمِّ الشملِ وإعادةُ الحياةِ إلى البيوتِ
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 19 ديسمبر 2025م : التَّفَكُّكُ الأُسَرِيُّ (مبادرة صحح مفاهيمك) ، إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان : كما يلي:
التَّفَكُّكُ الأُسَرِيُّ (مبادرة صحح مفاهيمك)
28 جمادي الآخرة 1447هـ – 19 ديسمبر .2025م
إعداد: رئيس التحرير د. أحمد رمضان
المـــوضــــــــــوع
الحمدُ للهِ الَّذي جعلَ الأسرةَ أوَّلَ لبنةٍ في بناءِ المجتمعِ، وأودعَ بينَ الزوجينِ سكينةً ومودةً ورحمةً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، أمرَ بحفظِ البيوتِ وصيانتها، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، رفعَ اللهُ بسنتهِ معالمَ الأسرةِ الراشدةِ، وبيَّنَ بمواقفهِ أعظمَ صورِ الرحمةِ والعدلِ والحكمةِ.
أمَّا بعدُ… فيا عبادَ اللهِ، اتقوا اللهَ حقَ التقاةِ، واعلموا أنَّ حفظَ الأسرةِ فريضةٌ شرعيةٌ، ومسؤوليةٌ اجتماعيةٌ، وإحسانٌ يستنزلُ رحمةَ اللهِ.
يا أحبةَ رسولِ اللهِ، إنَّ أمةً تتفككُ أسرُها تتفككُ قوتُها، وتضعفُ قيمُها، وتتشقَّقُ لحمتُها. ولذلكَ قالَ اللهُ تعالى في أعظمِ آيةٍ جُمِعَ فيها معالمُ السكنِ الزوجيِّ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]. قالَ البغوي في تفسيرهِ (3/575): “جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ فَهُمَا يَتَوَادَّانِ وَيَتَرَاحَمَانِ وَمَا شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ رَحِمٍ بَيْنَهُمَا”. فإذا تزعزعَ هذا البناءُ، واهتزتْ قوائمُهُ، ودبَّ الشقاقُ إلى جدرانهِ… تساقطتْ أعضاؤُهُ كما يتساقطُ البنيانُ الهشُّ أمامَ الريحِ.
العنصرُ الأولُ: خطورةُ التفككِ الأسريِّ في ضوءِ القرآنِ والسنةِ
أيها الأفاضلُ، إنَّ التفككَ الأسريَّ ليسَ حدثًا عابرًا، ولا مشكلةً جانبيةً، بل هوَ داءٌ ينخرُ جدارَ المجتمعِ من داخلهِ. فإذا انهارَ البيتُ، انهارتِ القيمُ، وتسربَ الضعفُ إلى الأبناءِ، وتفككتِ اللحمةُ التي تستندُ إليها الأممُ. ولذلكَ جاءتِ الآياتُ والأحاديثُ تؤسسُ لبناءِ الأسرةِ على التقوى، وتحذرُ من كلِّ ما يزعزعُها.
القرآنُ الكريمُ يرسمُ صورةَ السكنِ الحقيقيِّ: قالَ تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ [البقرة: 187].
وفي تفسيرِ الطبريِّ (3/232): “فيكونَ كلُّ واحدٍ منهما لباسًا لصاحبِه، بمعنى سكونِه إليه. وبذلك كان مجاهدٌ وغيرُه يقولون في ذلك، وقد يُقالُ لِما ستَر الشيْءَ وواراه عن أبصارِ الناظِرِين إليه: هو لباسُه وغشاؤُه.
وهذهِ الآيةُ تؤسسُ لمعنى عظيمٍ: أنَّ الزوجينِ يسترُ بعضُهما بعضًا، ولا يفضحانِ، ولا يهتكانِ السترَ؛ لأنَّ الفضائحَ أولُ معولٍ يهدمُ الأسرةَ.
وقالَ تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]. قالَ ابنُ كثيرٍ (2/245): “أي طيبوا أقوالَكم لهنَّ، وحسنوا أفعالَكم وهيئاتَكم بحسبِ قدرتِكم، كما تحبونَ ذلكَ منهنَّ، فافعلوا أنتم بهنَّ مثلهُ، كما قالَ تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 228]. وهنا نفهمُ أنَّ سوءَ الخلقِ، وغلاظةَ القلبِ، وسرعةَ الغضبِ… كلها مشاريعُ هدمٍ للأسرةِ.
السنةُ تقدمُ مفتاحَ الرحمةِ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي“. الترمذي (3895) واللفظُ له، والدارمي (2260)، وابن أبي الدنيا في ((مداراة الناس)) (154)، حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ من أصولِ إصلاحِ البيوتِ؛ لأنَّه يجعلُ ميزانَ الرجولةِ والأفضليةِ ليسَ في القوةِ، ولا المالِ، بل في حسنِ العشرةِ. وقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا”. البخاري (5185، 5186)، ومسلم (47، 1468).
فالوصيةُ هنا ليستْ أمرًا عابرًا، بل عهدٌ نبويٌّ يلزمُ الزوجَ بالرفقِ، ويلزمُ الزوجةَ بالطاعةِ الحسنةِ، ويلزمُ الطرفينِ بالإصلاحِ.
قصةٌ نبويةٌ تجسدُ قيمةَ الأسرةِ: روى البخاري (3004)، ومسلم (2549): “جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، يَسْتَأْذِنُهُ في الجِهَادِ، فَقالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَفِيهِما فَجَاهِدْ“. يا لها من لفتةٍ عظيمةٍ! رجلٌ يطلبُ الجهادَ، أعلى مراتبِ العبادةِ، فيردهُ النبيُّ ﷺ لأنَّ إصلاحَ أسرتهِ، وبرَّ والديه، أولى من جهادِ النفلِ.
فإذا كانَ هذا في “الجهادِ”…
فكيفَ بمن يتركُ زوجتَه تبكي؟ وكيفَ بمن يهجرُ أولادَه؟ وكيفَ بمن يسمحُ للغضبِ أن يكسرَ قلوبَ البيتِ؟
لماذا كانَ التفككُ خطيرًا؟ لأنَّه يصنعُ ثلاثةَ مصائبَ كبرى: يَهْدِمُ قيمَ العفةِ، فالبيتُ الممزقُ يخرجُ أولادًا ضعفاءَ النفسِ.
يَهْدِمُ الاستقرارَ النفسيَّ للأبناء، وقد أثبتتِ الدراساتُ أنَّ الطفلَ الذي ينشأُ في بيئةٍ مضطربةٍ يحملُ الاضطرابَ إلى مجتمعِه. يَكْسِرُ لُحمةَ الأمةِ، لأنَّ الأسرةَ هي الوحدةُ الأولى لبناءِ القوةِ.
يا أحبابَ رسولِ اللهِ… إنَّ التفككَ الأسريَّ معصيةٌ تفسدُ القلوبَ، ومحنةٌ تفسدُ المجتمعَ، ولذلكَ جاءَ الشرعُ بالشدةِ في حفظِ البيوتِ ورأبِ الصدعِ.
العُنْصُرُ الثَّانِي: أَسْبابُ التَّفَكُّكِ الأُسَرِيِّ وَمَظَاهِرُهُ فِي الوَاقِعِ المُعَاصِرِ
أيها الإخوةُ الكرامُ، إن الأسرةَ لا تتفككُ دفعةً واحدةً، ولا تنهارُ في لحظةٍ، وإنما تبدأُ مسيرةَ السقوطِ بخطواتٍ صغيرةٍ تتسللُ إلى داخلِ البيتِ، ثم تتراكمُ حتى تصبحَ نارًا تأكلُ أسسَهُ. ولذا كان العلماءُ يقولونَ: “أعظمُ الفواجعِ ما بدأ صغيرًا ثم كبرَ”. فما الذي يصنعُ التفككَ الأسريَّ؟ وما الذي يغذيهِ؟ وما الذي يجعلُ بيتًا آمنًا يتحولُ إلى ساحةِ خلافٍ ونزاعٍ؟
- ضعفُ التقوى وغيابُ المسؤوليةِ
يا عبادَ اللهِ، إن أولَ سببٍ لهدمِ الأسرةِ هو غيابُ الرقابةِ الإيمانيةِ التي جعلها اللهُ أساسًا لصلاحِ الأهلِ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ [التحريم: 6]، وقال عليٌّ رضي اللهُ عنهُ كما في تفسيرِ الطبريِّ (23/532): أي أدبوهم وعلِّموهم.
فإذا فقدَ الرجلُ القيادةَ الروحيةَ، وفقدتِ المرأةُ الطمأنينةَ، فقدَ البيتُ سكينتَهُ… وانفرطتِ العقدةُ التي تمسكُ الأسرةَ. ولذلك قال رسولُ اللهِ ﷺ: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيتهِ”. متفقٌ عليهِ (البخاري 7138، مسلم 1829). فأولُ خيانةٍ للبيتِ أن يتنصلَ أهلُهُ من المسؤوليةِ.
- الغلظةُ في المعاملةِ وسوءُ الخلقِ
يا أحبةَ رسولِ اللهِ… إن البيوتَ لا تهدمُ بالحجارةِ، بل تهدمُ بكلمةٍ جارحةٍ، ونظرةِ احتقارٍ، ونبرةِ إهانةٍ.
وقد قال رسولُ اللهِ ﷺ كما في الصحيحين: “إن الرفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلا زانَهُ، ولا يُنزعُ من شيءٍ إلا شانَهُ”. مسلم (2594). والعلماءُ يقولونَ: “ما خربَ بيتٌ إلا دخله العنفُ وسوءُ الخلقِ”. وليس المقصودُ بالعنفِ الضربَ فقط، بل يدخلُ فيه: التهمُ الجاهزةُ، الصراخُ، سخريةُ الزوجِ من زوجتهِ، إحراجُ الزوجةِ لزوجِها، فكلها سهامٌ تصيبُ قلبَ المحبةِ فتميتُهُ.
- التلاعبُ بالهواتفِ وقصورُ المخافةِ من اللهِ
يا الأحبةُ الكرامُ… إن من أشدِّ ما دمّر الأسرَ في هذا الزمانِ سوءُ استعمالِ التقنيةِ: هواتفُ تخفي الخطايا، وحساباتٌ تحجبُ الزوجَ عن زوجتهِ، وتغري القلوبَ بالحرامِ، وقد قال النبيُّ ﷺ:” لأعلمنَّ أقوامًا من أمتي يأتون يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ جبالِ تهامةَ بيضًا فيجعلها اللهُ عز وجل هباءً منثورًا… ولكنهم أقوامٌ إذا خلوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها“. رواه ابنُ ماجه (3442)، صحيحٌ. فمن كان يستحيي من الناسِ، ولا يستحيي من اللهِ، فقد فتح بابًا من أبوابِ التفككِ.
- دخولُ الأهلِ والأقاربِ في الخلافاتِ
يا عبادَ اللهِ، كم من أسرةٍ كان خلافُها صغيرًا، فدخل فيه الأقاربُ، فتضاعفَ، وتعقدَ، وتحولَ من مشكلةٍ إلى مأساةٍ!، قال اللهُ تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٣٥].
لاحظوا اللفظَ الدقيقَ: “حكمًا“ وليس “متدخلًا“، ولا “محرضًا“، ولا “متجسسًا“، الحكمُ شرعًا: الإصلاحُ لا الإفسادُ.
ولذا كان ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهُما يقولُ كما في تفسيرِ الطبريّ (5/ 23): “فهذا الرجلُ والمرأةُ، إذا تفاسدَ الذي بينهما، فأمرَ اللهُ سبحانهُ أن يبعثوا رجلًا صالحًا من أهلِ الرجلِ، ومثلهُ من أهلِ المرأةِ، فينظرانِ أيهما المسيءَ … “إن يريدا إصلاحًا يوفقِ اللهُ بينهما”، وذلك الحكمانِ، وكذلك كلُّ مصلحٍ يوفقْهُ اللهُ للحقِّ والصوابِ”.
- التقاربُ الجسديُّ بغيرِ تقاربٍ قلبيٍّ
يا إخوةَ الإيمانِ… قد تجدُ بيتًا يجمعُ الزوجينِ في سريرٍ واحدٍ… ولكن قلباهما أبعدُ من المشارقِ عن المغاربِ، وهذا النوعُ من التفككِ خطيرٌ؛ لأنه خفيٌّ، يأخذُ البيتَ وهو لا يشعرُ، وقد قال رسولُ اللهِ ﷺ: “لا يَفْرِك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كرهَ منها خلقًا رضيَ منها آخر”. رواه مسلم (1469). أي: يوازنُ، يتغافلُ، ويضعُ الحسناتِ مكانَ السيئاتِ.
- الإهمالُ العاطفيُّ للأبناءِ
يا أحبةَ الكرامِ… من أخطرِ أسبابِ التفككِ أن يملأ الأهلُ أيديَ أبنائهم بالنعَم الماديةِ، ويحرمونهم من العاطفةِ، والمصاحبةِ، والكلمةِ الطيبةِ، والنبيُّ ﷺ حين قبلَ الحسنَ والحسينَ، فقال له الأقرعُ بنُ حابسٍ: “إن لي عشرةً من الأولادِ ما قبلتُ منهم أحدًا”. فقال النبيُّ ﷺ في الصحيح (البخاري 5997، مسلم 2318): “من لا يرحمْ لا يُرحمْ”.
الأبناءُ الذين لا يجدون الحنانَ في بيوتهم… يطلبونه خارجَها، وهناكَ تولدُ الكارثةُ.
- الأزماتُ الاقتصاديةُ دونَ حكمةٍ وتعاونٍ
نعم… الفقرُ له أثرٌ، لكن عدمُ التعاونِ أخطرُ من الفقرِ، وقد كان النبيُّ ﷺ كما في الصحيحين يربطُ الحجرَ على بطنهِ من الجوعِ، ومع ذلك لم يسجلِ التاريخُ عليه يومًا أنه أهمل أهلَه أو قصّر في حسنِ الخلقِ معهم. فليس الفقرُ هو المتهمَ… بل سوءُ التعاملِ مع الفقرِ.
يا إخوةَ الإيمانِ… إن التفككَ لا ينزلُ إلى البيتِ مباشرةً، وإنما يدخلُ من ثقوبٍ صغيرةٍ: كلمةٌ جارحةٌ، هاتفٌ يخفي علاقةً، غضبٌ منفلتٌ، تدخلٌ خارجيٌّ، غيابُ تقوى، إهمالٌ عاطفيٌّ… فإذا اجتمعتْ… سقط البيتُ ولو كان من ذهبٍ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحمدُ للهِ الواحدِ الأحدِ، الفردِ الصمدِ، الَّذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤًا أحدٌ، نحمدُهُ سبحانهُ على ما أولى وأنعمَ، ونستعينُهُ على ما مضى وما قدمَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، شهادةً نرجو بها نجاةَ يومِ الندامةِ والعرضِ الأكبرِ، وأشهدُ أن سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وصفيَّهُ وخليلَهُ، المبعوثُ رحمةً للعالمينَ، وقدوةً للمصلحينَ، اللهم صل وسلم وبارك عليهِ، وعلى آلهِ وأصحابِهِ، ومن اهتدى بهديهِ إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ…
قد تحدثنا في الخطبةِ الأولى عن قدرِ الأسرةِ في الإسلامِ، وأسبابِ التفككِ الأسريِّ؛ وها نحن اليومَ ننتقلُ إلى العلاجِ النبويِّ والشرعيِّ، العلاجِ الذي يعيدُ للمنازلِ أنفاسَها، وللقلوبِ سكينتَها، وللحياةِ استقرارَها.
العنصرُ الثالثُ: علاجُ التفككِ الأسريِّ وطرقُ لمِّ الشملِ وإعادةُ الحياةِ إلى البيوتِ
يا إخوةَ الإيمانِ، إن أعظمَ ما يعالجُ به التفككُ الأسريُّ أن نعودَ إلى منهجِ اللهِ، فإن اللهَ تعالى قال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ [النور: 63]. والأسرةُ لا تتفككُ إلا عندما تخالفُ أمرَ اللهِ، ولا تجتمعُ إلا عندما تطبقُ شرعَ اللهِ. ولذلك جاءتِ الشريعةُ بالعلاجِ من أربعةِ أبوابٍ عظيمةٍ، إذا اجتمعت… اجتمعَ البيتُ معها.
- تجديدُ العقدِ الإيمانيِّ بين الزوجين: (وَعاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ)
يا عبادَ اللهِ… إن أولَ خطوةٍ لإصلاحِ البيتِ أن يجددَ الزوجانِ عهدَهما مع اللهِ، قبل أن يجددوا عهدَهما مع بعضِهما، قال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]. وإذا أرادَ الزوجُ أن يعرفَ قدرَهُ عند اللهِ، فلينظرْ كيف يحسنُ إلى زوجتِهِ، قال ﷺ: “خيارُكم خيارُكم لنسائِهم”. ابن ماجه (1978)، صحيحٌ.
وليس المعنى أن الرجلَ لا يغضبُ ولا يقصرُ، بل المعنى: أن خيرَ الناسِ أكثرُهم احتمالًا، وأقلُّهم إساءةً، وأسرعُهم رجوعًا إلى الحقِّ.
إن إصلاحَ الخللِ يبدأُ من ترميمِ الكلمةِ، من حسنِ القولِ كما قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، فكم من كلمةٍ أعادت بيتًا، وكم من همسةِ رحمةٍ بعثتِ الحياةَ في قلبٍ كان قد مات.
- بناءُ بيتٍ قلبُهُ الرحمةُ، وجوُّهُ السكينةُ: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)
يا أيها الأفاضلُ… لو نظرنا إلى آيةِ الزواجِ لوجدنا أن السكينةَ هي أولُ هديةٍ يهديها اللهُ للبيوتِ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ… لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [الروم: 21]. فالبيوتُ لا تُبنى بالمالِ، ولا تستقرُّ بالجمالِ، ولا تُعمرُ بالقوةِ، بل تُبنى بالرحمةِ، وقد كان النبي ﷺ أرحمَ الناسِ بأهلِه.
فعن الأسودِ، قال: سألتُ عائشةَ رضي الله عنها: ما كان يصنعُ النبيُّ في أهلِهِ؟ فقالت: “كان يكونُ في مهنةِ أهلِهِ” البخاري في الأدبِ المفردِ 418 حديثٌ صحيحٌ. يساعدُ، يبتسمُ، يواسي، يُلين… هذه أخلاقُ النبوةِ، وهذه مفاتيحُ السكينةِ.
- إصلاحُ الأبناءِ وحمايتُهم من آثارِ التفككِ
أيها الأحبةُ… الأولادُ هم أولُ من يدفعُ ثمنَ الخلافِ، وأولُ من يجرحُهُ الصراخُ، وأولُ من تتكسرُ أرواحُهم حين يرى أباهُ وأمَّهُ يتهشمُ بينهما الحبُّ، وقد قال ﷺ: “كفى بالمرءِ إثمًا أن يضيعَ من يقوتُ”. أبو داود (1692)، وأحمد (6495)، صحيحٌ. وأعظمُ ضياعٍ لأولادِنا هو: ضياعُ القدوةِ، ضياعُ الحنانِ، ضياعُ الأمنِ النفسيِّ، ضياعُ الجلسةِ العائليةِ، ضياعُ الدعاءِ معهم، ضياعُ القراءةِ عليهم، ضياعُ الحوارِ معهم.
إن الأصلَ الشرعيَّ كما قال ابنُ القيمِ في تحفةِ المودودِ (ص 229): “وقال بعضُ أهلِ العلمِ إن الله سبحانه يسألُ الوالدَ عن ولدِه يومَ القيامةِ قبل أن يسألَ الولدَ عن والده… فمن أهملَ تعليمَ ولدِهِ ما ينفعُهُ وتركهُ سدى فقد أساء إليه غايةَ الإساءةِ وأكثرُ الأولادِ إنما جاء فسادُهم من قبلِ الآباءِ وإهمالِهم لهم وتركِ تعليمِهم”.
فيا أيها الآباءُ، إن لم تصلحوا أنفسَكم… فصَلِّحوا أولادَكم، فهم خزائنُ مستقبلِكم، وهم دموعُكم يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون.
- إدخالُ الإحسانِ في تفاصيلِ الحياةِ اليوميةِ
يا أحبابَ الحبيبِ ﷺ، ما عالج الإسلامُ عطبًا مثلما عالجَهُ بالإحسانِ، قال ﷺ: “إن الله كتب الإحسانَ على كل شيء”. رواه مسلم (1955). الإحسانُ في الكلمةِ، النفقةِ، النظرةِ، اللمسةِ، القربِ، الهديةِ، التغافلِ، الصبرِ… فأدخلوا الإحسانَ في بيوتِكم… تصبحُ الجنةُ أقربَ مما تتصورون.
- الاستعانةُ بالحوارِ الرشيدِ لا بالعنادِ والتنابزِ
يا عبادَ اللهِ، الحوارُ أساسُ الاستقرارِ الأسريِّ، وهو المنهاجُ الذي اتبعهُ رسولُ اللهِ ﷺ في حلِّ كثيرٍ من مشكلاتِ بيوتِ الصحابةِ، والقرآنُ دعا إليه: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾، ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ولا يُعقلُ أن نخاطبَ الأعداءَ بالتي هي أحسن، ثم نخاطبَ أهلَنا بالتي هي أخشن!
- الدعاءُ… سلاحُ المستضعفِ، وبلسمُ البيوتِ
أيها الإخوةُ، كم من بيتٍ أصلحهُ اللهُ بدعوةٍ بين الأذانِ والإقامةِ، ودعوةٍ في جوفِ الليلِ، ودعوةِ أمٍّ باكيةٍ، ودعوةِ رجلٍ مكلومٍ، ودعوةِ طفلٍ صغيرٍ يسمعُ شجارَ أبويهِ فيرفعُ يديه قائلًا: “يا رب اجمع قلبَي والديَّ!” إن الله تعالى يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60].
وفي الحديثِ: “ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شك فيهن: دعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ الوالدِ على ولدِه”. أبو داود (1536)، والترمذي (1905)، وابن ماجه (3862)، صحيحٌ. فأكثروا الدعاءَ… فإن البيوتَ تُبنى بالدعاءِ كما تُبنى بالعملِ.
أخْتِمُ العُنْصُرَ الثَّالِثِ بِمَوْقِفٍ مُؤَثِّرٍ: ذُكِرَ في البداية والنهاية (9/278)، نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي الأخيار) للشبلنجي المصري ص115: جاء رجلٌ إلى عمرَ رضي الله عنه يشكو إليه خُلقَ زوجتِهِ، فوقف ببابِهِ ينتظرُهُ، فسمع امرأتَهُ تستطيلُ عليهِ بلسانِها، وهو ساكتٌ لا يردُّ عليها، فانصرفَ الرجلُ قائلًا: إذا كان هذا حالُ أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ فكيفَ حالي؟ فخرج عمرُ فرآهُ مولِيًا فناداهُ: ما حاجتُكَ يا أخي؟ فقال: يا أميرَ المؤمنينَ جئتُ أشكو إليكَ خُلقَ زوجتِي واستطالتَها عليَّ، فسمعتُ زوجتَكَ كذلكَ، فرجعتُ وقلتُ: إذا كان هذا حالُ أميرِ المؤمنينَ مع زوجتِهِ، فكيفَ حالي؟ فقال عمرُ: تحملتُها لحقوقٍ لها عليَّ، فإنها طباخةٌ لطعامي، خبازةٌ لخبزي، غسالةٌ لثيابي، مرضعةٌ لأولادي. يا الله…! إذا كانَ عمرُ — القويُّ الأمينُ — يقولُ هذا… فكيفَ بنا نحنُ؟!
الْخَاتِمَةُ: يا عبادَ اللهِ… هذهِ البيوتُ التي نعيشُ فيها ليستْ جدرانًا من طين، ولا سقوفًا من خشب… إنّها أماناتٌ حمّلنا اللهُ إيّاها، وجعلها محاضنَ للأجيالِ، ومدارسَ للإيمانِ، وحدائقَ تخرجُ منها ثِمارُ الأمةِ، فإنْ صَلَحَتْ الأُسَرُ… صَلَحَتِ الأمةُ، وإنْ فسدتْ… إنهارَ البنيانُ كلّه، كما ينهارُ الجدارُ إذا سقطَ أولُ حجرٍ منه.
فاجعلوا بيوتَكم مزارعَ للسكينة، وحدائقَ للمودّة، ومنازلَ للإحسان، واحملوا أنفسَكم على الصبرِ والصلاحِ، فإنّ اللهَ تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153].
اللهمَّ أصلحْ بيوتَ المسلمين… اللهمَّ أَلِّفْ بين قلوبِ الأزواجِ والزوجات، اللهمَّ انزعِ الشيطانَ من بيوتِنا، واحفظ مصر من كل سوء
المراجع: القرآن الكريم
كتب الحديث: صحيح البخاري، صحيح مسلم، مسند أحمد، سنن أبي داود، سنن الترمذي، سنن ابن ماجه، سنن الدارمي، الأدب المفرد للبخاري.
تفسير الطبري، تفسير ابن كثير، تفسير القرطبي، تفسير البغوي، تفسير السعدي، شرح البخاري لابن حجر، شرح البخاري لابن بطال، مداراة الناس لابن أبي الدنيا، تحفةِ المودودِ لابن القيم، البداية والنهاية لابن كثير، نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي الأخيار) للشبلنجي المصري.
د. أحمد رمضان
خُطبةُ صوتِ الدعاةِ – إعداد رئيس التحرير: الدكتور أحمد رمضان
___________________________________
خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف علي صوت الدعاة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
و للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع
و للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف






